كان أبي

كان رحمه الله يحب القرآن والمسجد. ويترجم حبه لهما في الواقع بمشاريع ينتفع هوبها وينفع الآخرين. ولعل فترة عمره التي قضاها طبيباً في محافظة البرك هي من أكثر فترات عمره نشاطا وحيوية وعطاءً.

أذكر وأنا صغير (لعله في بداية الثمانينات) أنه أراد جلب مراوح كهربائية في المسجد الجامع في البرك (جامع السوق القديم). فقام بحثّ أصحاب الخير وأحضر تلك المراوح في الجامع. ثم جعلني مساعداً له في صنع طاولات من الخشب ووضع المراوح فوقها حيث أن المراوح كانت قصيرة. فكان يعمل نجاراً في الظهيرة ويقطع الأخشاب بالمنشار وكنت معه أعاونه في بناء تلك الطاولات فرحمه الله. ثم انتقل لحي آخر مجاور ولم يكن هناك مسجد قريب فقام رحمه الله بحث أهل الخير في وقف أرض للمسجد وجمع تبرعات لبناء المسجد وتوسّط لدى الشركة التركية التي كانت تنشئ محطة تحلية البرك في استكمال بناء جزء كبير من المسجد. فكان ذلك مسجدنا الذي كنا نصلي فيه وكنت أؤذن في المسجد بعض الأحيان. فهذا أبي كان محور النشاط ومركز الثقل في تنسيق بناء هذا المسجد ونسأل الله أن يكتب لأبي حسنات المصلين في هذا المسجد.

png

أنا أتحدث عن أعمال أنجزت قبل ثلاثين عاماً حين غادر الوالد بلدة البرك ولكن الناس لم ينسوه وكم هيجتني كلمات الأستاذ حسن زيلعي وهو أحد أصدقاء الوالد على البكاء وهو يعزيني في الوالد ويقول “الكل يحب شرف الإسلام ما تعرف كم ناس ساعدهم وكم فقير اعانه وكم فعل من أعمال خير في السر. وكان سبب في هداية كثير للطريق الصحيح”.

فهذا جزء يسير من قصة “الوالد مع المساجد”. ودعني الآن أقصّ بعض القصص من فصل “الوالد والقرآن”.

وهو فصل عظيم وهل أنا إلا حسنة من حسناته؟

تعلّم والدي الطب من بنجلاديش ودرس قبلها في المدارس البنغالية وبالتالي لم يعرف العربية كتابة ولا قراءة إلا قراءة ضعيفة يتتعتع بالقرآن شأنه في ذلك شأن أقرانه. ثم قدم السعودية طبيباً في وزارة الصحة وبدأ في التعامل مع المرضى وذويهم في قري الجنوب وتهامة (من ذلك أذكر الطوال والعارضة والمعقص والمظيلف إضافة للبرك). وكانت لديه ملكة تعلم اللغات فسرعان ما استسهل الصعاب وبدأ يطلق لسانه بالعربية (وبالطبع مع لكنة الأعاجم) وكذلك تعلم الكتابة والقراءة. ثم حبب إليه قراءة القرآن وحفظه. وكان يصحبني معه إلي المستوصف (وعمري لم يتجاوز السبع سنوات) ونحفظ سوياُ القرآن الكريم ونتعاون ونتسابق في ذلك. فهل رأيتم والداً وولده يتسابقان معاً في حفظ كتاب الله؟

ولم يقف والدي الدكتور شرف الإسلام في حدود القراءة والحفظ وإنما تفتحت شهيته لمعرفة مراد الله في كتابه وتدبر معانيه وتفسير عباراته. وكنت أذكر أنه كان يقضي الساعات الطوال يتدارس هو وبعض معلمي التربية الإسلامية في مدرسة البرك يقرؤون من تفسير الجلالين. وكنت أتعجب من علو همة والدي ومثابرته وعدم تملله من قراءة القرآن في البيت وفي المستوصف وفي السيارة وقبل النوم.

ظهرت لديه مرة (لعله في أواسط الثمانينات في القرن الميلادي الماضي) ورم تحت الإبط ونقل إثرها لمستشفى الملك فهد بجازان واشتبه الأطباء بورم سرطاني خبيث فكان رحمه الله يداوم على قراءة القرآن فترة مكوثه في المستشفى وأتم خلالها حفظ سورة الأعراف وبفضل الله اختفى ذلك الورم وكأن لم يكن موجوداً أبدا وتعجب الأطباء والممرضات من غير المسلمين من ذلك ونحسب أن الله قد أكرمه وشفاه ببركة كتابه العزيز.

وبعد أن نهل من منهل القرآن واستمتع به علت همته لتعليم بني جنسه فبدأ بتدوين تفسير سورة البقرة باللغة البنغالية. وقد كانت كتب التفسير البنغالية المتوفرة في المكتبات لا تعنى بترجمة المفردات وإنما تسرد الترجمة الكاملة للآية القرآنية فكان والدي يحرص علي ترجمة المفردات والكلمات القرآنية قبل إيراد ترجمة الجملة الكاملة ثم يوضح معاني الآيات والفوائد ويحرص في إيراد الأحاديث النبوية المتعلقة بالآية القرآنية ويعتمد كثيراً على تفسير ابن كثير وصفوة التفاسير للصابوني وكتاب رياض الصالحين لاقتباس الأحاديث وكان يستعين ببعض معلمي مدرسة البرك اذا استشكل عليه بعض العبارات وكان يسألني أحيانا بحكم أن عربيتي كانت أفضل من عربيته. وممن يجدر ذكر أسمائهم الأستاذ محمد علي زيلعي وكان هو والأستاذ محمد يقضيان الساعات الطوال في دراسة الآيات والتفاسير. وبحمد الله أتم والدي تفسير سورتي الفاتحة والبقرة وجزء عم في جزئين مطبوعين في المكتبات البنغلادشية ولقي قبولا كبيرا ونسأل الله أن يجعل ذلك من أسباب الانتفاع الدائم بعد موته.

ثم نطوي صفحات الأعوام والسنين ونقف مع الوالد في سرير الموت وفي ساعات الاحتضار. فَقَد الوالد في أواخر عمره الوظائف الحيوية للجسم من سمع وبصر وكلي وأمعاء ووظائف الدماغ ولكن لا زال قلبه كان نشيطاً قوياً وقد حقن بمادة الدوبامين (Dopamine) لتسريع قبضات القلب وتهييج عضلات القلب لدفق الدم لسائر الجسم. وهذه المادة عادة ما تحقن لساعات قلائل للمريض حيث لا يتحمل القلب هذا الجهد المضاعف لفترة طويلة. ولكن قلب والدي تحمل سياط الدوبامين لستة أيام وليال متواصلة وهو في التاسعة والسبعين من العمر وإن تعجّب الأطباء من ذلك فإننا لا نعجب من قوة قلب امتلئ بحب القرآن وسكنه الوحي الرباني الذي هو حياة القوب وطمأنينتيه.

وهكذا سكن قلب الوالد شرف الإسلام لبارئه ولفظ آخر أنفاسه مع أذان العشاء ليلة السبت 17 جمادى الأولي من عام 1442هـ (افتتاحية عام 2021م) بعد صراع طويل مع المرض نسأل الله أن يمحّص ذنوبه ويغفر زلاته ويجعل القرآن شفيعه وأنيسه في قبره، ونسأل الله أن يحي قلبه وروحه بالقرآن كما كان هو طبيب الأبدان في الدنيا.

وكم أسعدني عزاء أخي وصديقي منذ الصغر الأستاذ الحسن منجحي: “إنا لله و إنا إليه راجعون… رحم الله قارئ القرآن ..نصير الضعفاء ..طبيب الأنسانية … رحم الله من كان القرآن ونيسه و المسجد مجلسه .. رحم الله من ربى ذريته على حب القرآن و حفظه … اللهم أرحم عبدك و أجعل القرآن شفيعا له عندك فقد كان ونيسه في أرضك.

اللهم أني أشهد أن لا اله الا أنت و أنك تعلم ما في السر و ما في العلن و أنك تعلم أن محمد شرف الإسلام قد مسه الضر في آخر عمره بعد أن أفنى شبابه و كهولته في عبادتك و طاعتك فعامله برحمتك الواسعة و آنس وحشته و أبدله دار خير من داره و أجعله الله من الفائزين بالنظر الى وجهك الكريم..”

وقبل ذلك أعزي نفسي بهذا الحديث العظيم وأسأل الله أن يمن على والدي بما جاء فيه من الوعد العظيم.

عن بريدة رضي الله عنه قال: سمعت النبي- صلى الله عليه وسلم - يقول ( َإِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ . فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ : مَا أَعْرِفُكَ . فَيَقُولُ لَهُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي الْهَوَاجِرِ وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ ، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ ، فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا . فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذِهِ؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجَةِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذًّا كَانَ أَوْ تَرْتِيلًا) رواه أحمد في “المسند” (394) وابن ماجه في “السنن” (3781) وحسنه البوصيري في الزوائد والألباني في “السلسلة الصحيحة” (2829)

كُتب في 04/01/2021