حتى يتبين لهم أنه الحق

الحمد الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وصلى الله وسلم وبارك على من أرسله الله شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:

القرآن الكريم مجال خصب يصول ويجول في ثناياه أولو الألباب ليستخرجوا منه الكنوز الثمينة ويرجعوا بفوائد عظيمة، ولا يزال هذا الكتاب يقذف بعجائبه لكل من يغوص في أعماقه موقناً أنه تنزيل من حكيم حميد، أما الشاكون في مصداقيته والمريبون بربانيته فلا يزالون في مرية منه ولا يزدادون مع الأيام إلا عمى، وسيجدون الحسرة والندامة يوم القيامة “ واللذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى”.

والقرآن الكريم يحض على إعمال الفكر ورياضة الذهن في الآلاء المبثوثة في الكون أو النفس، فتجد آيات عديدة تختم بعبارة “إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون”، والقرآن كله ميدان للتفكر والتدبر “كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب”، وقال تعالى: “ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون”.



وكثيراً ما يوضع القرآن في قفص الاتهام على أنه كتاب قديم لا يصلح للقرن الحادي والعشرين، ولكن الحقيقة أن عدم التفكر والتدبر جعل هؤلاء يظنون كذلك، ولو أعادوا النظر في آياته وطلبوا الهدى فيه لعلموا أن كتاب الله كنز زهدوا فيه، وأنه مثل حسناء زفت لأعمى “ أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين” [ الزخرف: 40] 

والآن - وفي عصر التقدم الصناعي والثورة العلمية والتقنية- يرفل كتاب الله في ثياب جديدة ليجدد تحديه الذي أبرمه قبل خمسة عشر قرناً من الزمان، هذا التحدي الذي لا يحده زمان أو مكان أو جنس. فهو تحد لأهل العربية في مكة- من الجن والإنس- أيام الرسول –صلى الله عليه وسلم – وهو كذلك تحد لأهل العلوم والتكنلوجيا وما معهم من أدوات ومبتكرات في زماننا هذا، وسيظل متحدياً إلي يوم يعود إلى من منه بدأ “قل لئن اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً” 



ولئن كان أهل العربية –من الجن والإنس- قد تعجبوا من إحكام كلام الرب في الجانب اللغوي، وكان ذلك مدعاة لدخولهم في ظلال هذا الكتاب المجيد فإن أهل العلم والتقنية في هذا الزمان هم أولى الناس بالدخول في ظلاله؛ وذلك لأنهم أجدر الناس بتذوق حلاوة الإحكام العلمي والتقني لكتاب الله، ولكن هناك مشكلة حالت دون تذوقهم لحلاوة كتاب الله.

تلكم هي الصبغة العلمانية التي تلون بها “علماء” هذا العصر. فإنه من المعلوم أن المشروع الحضاري الصناعي والتقني لم يبدأ في أوروبا إلا بعد أن تبرأ “رجال الدنيا” من “رجال الدين” بالكلية، ووقعوا عقد الطلاق البائن مع الكنيسة، وهكذا تقدم العلم على أيدي رجال جحدوا ربهم ونعمه وآياته، فلم ينسبوا هذا الكون إلى خالقه، بل جعلوا “الطبيعة” تخلق، ودفعوا بآلاف الشواهد على خلق الله، بشاهد أو اثنين سريعاً ما يترنح ويسقط أمام الحجة والبرهان العقلي، وقد يعذر العالم الأوروبي لتصرفه هذا؛ لأنه قد ذاق الأمرّين من رجال الكنيسة ولم يكن الكتاب المقدس في صفِّه حين كان يكتشف أسرار الكون، فبدأ يشك في مصداقية الكتاب المقدس وينتقل على مراحل من الشك إلى اليقين! هذا عن الغرب، فماذا عن الشرق الإسلامي؟
 
عندما تراجع المسلمون عن دينهم ولم يعتزوا بمصدر العزة- وهو كتاب الله- عندها أصبحوا أمة ضعيفة وهي أكثر الأمم عدداً، وقد كانوا من قبل -بكتاب الله- أقوى الأمم وهم أقلهم عددا، فاليوم أصبحنا عالة على الأمم، وعندما فقدنا حضارتنا أصبحنا نستورد الحضارة من جملة ما نستورده من الغرب، وهكذا نسخنا الحضارة العلمية بصورتها العلمانية وفرضناها على واقعنا فرضاً، وهكذا تلونّنا بصبغة لا دينية ونحن أكثر الأمم تديناً، فإن كانت نسخة العلمانية في الغرب تضع الكتاب المقدس في قفص الاتهام، فإن النسخة الشرقية تضع القرآن الكريم في قفص الاتهام، وهنا مكمن الخطر!

كان يجب على أبناء المسلمين أن يأخذوا التقدم العلمي دون النزعة العلمانية، ثم يجعلوا هذا التقدم آلةً و ميداناً لدراسة آلاء الله وعظمته في الكون والنفس. لقد كان العربي من قديم يجد لهذه الآية حلاوة معينة في الأسلوب والبيان “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق”، ولكن وبعد التقدم الهائل للعلوم والتقنية وفك كثير من أسرار الآفاق والنفس، فإنه يجب علينا أن نجد حلاوة جديدة لهذه الآية بأضعاف مضاعفة. كان من المفترض أن يتحول فصول الدراسة في كلية الطب والهندسة وعلوم الأرض وعلم الأحياء… إلخ إلي مجال لتجدد الإيمان ومعرفة عظمة الرب، وكان من المفترض أن الطالب في هذه الفصول يخرج منها بإيمان مثل تلك التي يخرج منها عقيب صلاة الجمعة، ولكن النزعة العلمانية حالت دون ذلك، فربط الآيات الكونية بالآيات السمعية لا يوجد في الكتب العلمية التي نستوردها من الغرب، وهذا لا يتوقع من مؤلفين غربيين، ولكن كان يجب على المحاضر المسلم في جامعاتنا أن يسد هذا الفراغ.



كان يجب على المحاضر المسلم في قسم علوم الأرض أن يلفت أنظار طلابه وهو يلقي محاضرة عن الجبال و أنواع الصخور إلى قوله تبارك وتعالى: “ ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود “، ثم قبيل انتهاء المحاضرة يلفت انتباه الطلاب لمسألة الخشية من الله الواردة في الآية التالية مباشرة “إنما يخشى الله من عباده العلماء”، وهكذا يخرج الطلاب من المحاضرة وهم منبهرون من عظمة الرب الذي عدد أنواع مخلوقاته، فأنواع عديدة من صخور وجبال وأنواع مختلفة من النباتات، بل أصناف مختلفة لنبتة واحدة وهكذا أنواع الكائن البشري الطويل والقصير والأبيض والأسود والشقي والسعيد!

وكان يجب على المحاضر في كلية الطب وهو يلقي محاضرة في “علم الأجنة” أن يلفت أنظار الطلاب للآيات التي تتحدث عن هذا الموضوع في سور الحج والمؤمنون وغيرهما، ثم قبيل انتهاء الدرس يعرج إلى ربط مراحل النمو البشري في رحم الأم وعلى ظهر الأرض بمراحل نمو النبات في الأرض الميتة كما تماماً ربط الله بينهما في قوله تعالى: “وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج”، ويكون ذلك مقدمة لطرح أعظم نظرية وأجل حقيقة والواردة في الآية التالية مباشرة: “ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور”، وهكذا يخرج الطلاب من الدرس وقد ربطوا الآيات الكونية بالسمعية، ونفذوا إلى عالم الألوهية من بوابة الربوبية، ونطقوا بلسان الحال إن لم يكن بلسان المقال: “ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار”



وكان يجب على المحاضر في قسم “الحاسب الآلي” وهو يلقي محاضرة في مادة “الذكاء الصناعي” ويبهر طلابه بالتقدم العلمي في مجال “الإنسان الآلي”، وتزل به القدم ويحاول عبثاً أن يُمنّى طلابه بيوم قريب حين يكتشف فيه العلم ماهية العقل والتفكير و “يخترع” إنساناً “آلياً” يفوق الإنسان “الرباني” الذي له كل خواص الإنسان من تفكير ووجدان ومشاعر. أقول: كان يجب عليه أن يتواضع أكثر ويتذكر فقره وعجزه، وأنّى له أن يوهب العقل والإدراك لآلة صماء وهو لم يقترب من معرفة ماهية نفسه وعقله ووجدانه! وكان عليه أن يتذكر قوله تعالى: “ أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار” [ الرعد: من الآية 16]

وهكذا يجب أن يتحول جامعاتنا العلمية لـ “مساجد” من نوع آخر يتلقى فيها الطلاب دروساً في السنن الربانية في هذا الكون ويربطها بالآيات السمعية التي يسمعها في المساجد، وإذا كانت شعارات “ اللادينية” تروج في المجتمعات الغربية؛ وذلك لعدم قدرة دينهم وكتابهم المقدس “المحرف” لإثارة مشاعر المستكشف العلمي الأوروبي واحتوائه، فإن المستكشف الشرقي المسلم سيجد في كتابه المقدس “القرآن الكريم” كل ما يثلج صدره ويوقظ حسه ويدفعه دفعاً للأمام.



إننا اليوم أمام منعطف خطير أجلب فيه أهل الباطل من ملل ونحل شتى، أجلبوا على الأمة الإسلامية بأسلحتهم وذخائرهم الدنيوية وليس لديهم سوي علوم ظاهرة وزخارف من القول غروراً، أما الأمة الإسلامية فإنها تستأثر بأسلحة “ربانية” وعلوم “أخروية” ولكن المشكلة هي أنه لفرط جهل الأمة، فإن هذه الأسلحة لم تستخرج من غمدها بعد! 

إن من ميادين الجهاد الإسلامي، خاصة في حال ضعف الأمة هو ميدان الحجة والبيان، وهذا ميدان عزيز لا يستطيع أي جيش أن يبارز الجيش الإسلامي فيه، وذلك أن البشرية مهما تقدمت في علومها فإنها لن تقترب من علم الله “وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً” ونفائس علم الله مسطر في كتاب عزيز لا تمتلكه أية أمة سوى أمة الإسلام، ولذلك كان هذا الكتاب المبارك هو سلاح المسلمين حين لم يكن هناك جهاد، فكان القرآن هو المقصود بالآية المكية “وجاهدهم به جهاداً كبيراً”، فجاهد الرسول المبارك عليه الصلاة والسلام كفار قريش بهذا القرآن، ببيانه وحججه، وحقق في هذا الميدان انتصاراً عظيماً حتى جُنّ جنون القوم، وصاحوا صيحة رجل واحد “ لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون”، فعندما أيقنوا أنهم لا يستطيعون مقارعة الحجة بالحجة؛ لأنه لا حجة لديهم عندها سلكوا مسلك المنهزم المتغطرس “وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون”.
 
وقد كانت سنة الله في الأمم المتقدمة حين يبعث الرسل لأقوام بعينها أن يؤيد هذا الرسول بـ “علوم سماوية” من جنس “العلوم الأرضية” التي يبرز فيها ذلك القوم، فقارع موسى –عليه السلام – “علوم السحر” المنتشرة في عصره بمعجزة هي من جنس علوم القوم، ولكن شتان بين العلمين وبين القدرتين “فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون”، وهكذا فعل عيسى –عليه السلام_.

أما نبينا محمد – صلي الله عليه وسلم- فقد كانت رسالته عالمية وشاملة لا يحدها زمان أو مكان أو جنس، فكان لزاماً أن يأتي بمعجزة أيضاً لا يحدها مكان أو زمان أو جنس، فكان هذا القرآن الكريم معجزة صالحة لكل مكان وزمان، فقد كان صالحاً لزمن نبينا محمد – عليه الصلاة والسلام- حيث أهل الفصاحة والبيان، أما اليوم فالخصم اللدود ليس لديه فصاحة ولا بيان، ولا هو عربي أصلاً، وإنما الخصم الحقيقي اليوم هو رجل غربي، مادي، لا يؤمن بالأديان، ولا يعترف لهذا الكون خالقاً، عنده بضاعة مزجاه من علوم أرضية، ساقه الشيطان حين بدأ يفسر بعض ظواهر الكون ظن أنه يستطيع تفسير كل شيء، عندها أحس بنشوة وفرح، واتبع خطوات الشيطان، فهو الآن “اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة”. 



فعلى الأمة الإسلامية الآن أن تتعرف أولاً على طبيعة عدوها الحقيقي، وتتعرف على طبيعة ما لديه من علوم أرضية، وطبيعة تفكير هذا العدو، ثم بعد ذلك عليها أن تنزل في ميدان المعركة وسلاحها القرآن والسنة، وأنعم بهما من سلاح، فإذا أخذت أمة الإسلام بالسبب وثبتت في المعركة فإن النصر حليفها “بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق” “ وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا”.

نشرت في موقع المسلم بتاريخ 19/6/1425

كُتب في 20/10/2017