رمضان بين أهل اللب و أهل القشور

جلست ذات يوم أفكر في هذا الضيف الذي سيحل بدارنا عما قريب. وبعد تأمل أدركت أن الناس يتفاوتون في نظرتهم لهذا الشهر المبارك، فمن الناس من هم أهل شهوات حظهم من الشهر المبارك إشباع شهواتهم، ومن الناس فئة أخرى تجاوزوا القشر وراحوا ينقبون في اللب وعرفوا معنى رمضان على حقيقته، فهؤلاء هم أصحاب اللب وأولئك أصحاب القشور والبون شاسع بين الفريقين.

فهم القشور وبالقشور قوامهم *** واللب حظ خلاصة الإنسان

أهل القشور

أهل القشور نظروا لليالي رمضان على أنها فرصة كبيرة للسمر مع الأصدقاء على الأرصفة والمقاهي والفضائيات. وقبل ذلك عند الإفطار يتسابقون لملء بطونهم بما لذ وطاب، ولا تسل عن صاحب شهوة حين يمتلئ بطنه ويغيب الرقيب ويقبل الليل، هل يستطيع أحد أن يعيده لرشده إلا أرحم الراحمين؟ أهل القشور أصحاب الشركات وجدوا هذا الشهر فرصة ثمينة لرواج بضائعهم. ألبان وعصيرات وبسكويت وأجبان في قائمة يطول حصرها من شتى ألوان الأغذية تراها أمامك في إعلانات الفضائيات والشوارع والصحف. وبإمكان أي فرد منا زيارة أي متجر في هذه الأيام والتأمل في كميات المطعومات والمشروبات التي يشتريها المستهلكون. ولعل غير المسلم حين ينظر إلى كيفية استعداد الأمة الإسلامية لاستقبال هذا الشهر الفضيل فإنه سيتيقن أننا أمة أكولة من الدرجة الأولي. ولو أن الأمر اقتصر على الأغذية لهان ولكن أهل القشور جعلوا هذا الشهر مناسبة لرواج الرذيلة والفحش في المجتمع الإسلامي. تقوم الفضائيات باستقطاب الصائمين بعيد الإفطار ومرافقتهم حتى السحر بين مسلسلات وأغان وفوازير و برامج لاستنزاف أموال المشاهدين عن طريق الاتصالات الهاتفية. أتعجب ويحق لك أن تتعجب حين ترى دعاية لبرامج هابطة أو بضاعة ساقطة تتصدرها عبارة ”بمناسبة شهر رمضان المبارك”! وأي مناسبة بين شهر أنزل الله فيه القرآن وبين برامج يسيطر عليها مزامير الشيطان.

أهل اللب

وإذا كان ما سبق شيء يسير من طبائع أهل القشر في رمضان فإن الأمر مختلف مع أهل اللب اللذين رحلوا بفضل الله وراء الماديات وأدركوا حقيقة رمضان (أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب) [الزمر: من الآية 18].

شهر القرآن

أولو الألباب فرحوا برمضان أشد من فرح أهل الشهوات بهذا الشهر، وذلك لأنهم أدركوا أن هذا الشهر هو شهر القرآن. وإذا كان القرآن هو كلام رب العالمين وهو ربيع القلوب ونور الصدور وشفاء وهدى ورحمة، فلا عجب أن يفرح المؤمنون بشهر أنزل فيه هذا القرآن

(قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا، هو خير مما يجمعون) .

شهر الدعاء

أولو الألباب فرحوا برمضان لأنه شهر الدعاء الذي هو سلاح المؤمن و روح العبادة ومناجاة الرب، ولا تسل عن حال قلب المؤمن الذي صام النهار ثم قام في ظلمة الليل يتلو كتاب الله بتدبر ويتأمل في معانيه وعيناه تذرفان يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه. إن هذا الفرح والانشراح لا يمكن شراؤها بملء الأرض ذهباً وذلك لأنه عطاء من الرحمن لعباد الرحمن

(أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، إنما يتذكر أولو الألباب) [الزمر: 9].

شهر الإنتصار

أولو الألباب فرحوا برمضان لأنه شهر النصر. الانتصار على النفس الأمارة بالسوء، والانتصار على ألد أعداء بني آدم وهو الشيطان، وإذا استطاع الفرد أن ينتصر على أعدائه من الداخل فإن الأمة تستطيع الانتصار على أعدائها من الخارج، وقد أثبت تاريخ الأمة الحافل أن رمضان هو شهر النصر والعزة والتمكين، ومن أجل ذلك يفرح المؤمنون برمضان

( ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء، وهو العزيز الرحيم) [الروم: 4، 5].

شهر الصبر

أولو الألباب فرحوا برمضان لأنه شهر الصبر. صبر في طاعة الله، وصبر عن المحظورات وصبر على ما قدره الله من الجوع والعطش. ومن أجل ذلك كان الصوم خاصاً لله وقد خبأ أكرم الأكرمين نوعية الجزاء للصائمين حتى يشمر له المشمرون، ويكفي الصائمون بشارة قول الله تعالى

(إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب).

شهر الوحدة

أولو الألباب فرحوا برمضان لأنه شهر الاتحاد، تبرز فيه مظاهر اتحاد الأمة الإسلامية، فالأمة كلها تصوم لرؤية الهلال وتفطر لرؤيته، وتسود مظاهر المودة والرحمة في الأمة وتكثر الصدقات والزيارات وتفقد الأحوال. فمدرسة رمضان تعلم الأمة درساً في اتحاد الكلمة وإصلاح ذات البين، ويتسارع المسلمون صبيحة يوم العيد لإخراج زكاة الفطر ومواساة الفقراء ثم يؤدون الصلاة سوياً ويتبادلون التحيات ويبارك بعضهم بعضاً بما من الله عليهم بصيام هذا الشهر المبارك

(ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون).

إذن لنكن جميعاً من جملة أولي الألباب الذين يقدرون رمضان حق قدره ويعتبرونه مدرسة لتعليم التقوى، ولنربأ بأنفسنا أن نكون من أهل القشور الذين جعلوا رمضان شهر أكل وشرب واجتماع على ما يسخط الله رب العالمين.

المصدر: جريدة البلاد

كُتب في 01/11/2017