عودة الغربة
الحمد لله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، والصلاة والسلام علي إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، وعلى أصحابه وأهل بيته وأزواجه ومن اقتفى أثرهم إلى يوم الدين. فإن مما لا شك فيه أننا نعيش زمن غربة شديدة، وهذا أمر أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه سيقع بقوله في حديث أبي هريرة عند مسلم:
“بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء”، وقد تتبع الحافظ ابن رجب طرق وروايات هذا الحديث في رسالته الثمينة (كشف الكربة في وصف أهل الغربة)، ويمكن تلخيص الخصال التالية لأهل الغربة:
- أهل الغربة هم النزاع من القبائل (رواية أحمد وابن ماجة من حديث ابن مسعود)، أي أنهم قلة قليلة جداً كما كان المسلمون في العهد المكي يسلم الواحد والاثنان من القبيلة المؤلفة من ألوف وقبائل ليس فيهم مسلم واحد.
- أهل الغربة يصلحون إذا فسد الناس (رواية الآجري).
- أهل الغربة يفرون بدينهم من الفتن.
- أهل الغربة يصلحون ما أفسد الناس من سنة الرسول صلى اله عليه وسلم - (رواية الترمذي من حديث كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده).
- أهل الغربة قوم قليل، في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم (رواية أحمد والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو).
- أهل الغربة فرارون بدينهم، يبعثهم الله مع عيسى - عليه السلام -.
وإن من الخطأ أن يظن الظان أن الغربة الثانية سببها قلة من ينتسبون إلى الإسلام، بل هم كثير ولكنهم غثاء كغثاء السيل، أما أهل الغربة فهم الفئة المتمسكة بالسنة عقيدة وعملاً ومنهجاً، وهذا الذي فهمه الإمام الأوزاعي من هذا الحديث حين قال: “ أما إنه ما يذهب الإسلام ولكن يذهب أهل السنة، حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد”، وكان الحسن البصري - رحمه الله - يقول لأصحابه: “يا أهل السنة، ترفقوا رحمكم الله فإنكم من أقل الناس”، وكان سفيان الثوري - رحمه الله - يقول: “استوصوا بأهل السنة فإنهم غرباء” والسبب الرئيس لغربة الدين أمران: الشهوات و الشبهات. وقد خشي الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أمته منهما كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن أبي برزة “إنما أخشى عليكم الشهوات التي في بطونكم و فروجكم ومضلات الفتن”، ولما فتحت كنوز كسرى على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه بكى، فقال: إن هذا لم يفتح على قوم قط إلا جعل الله بأسهم بينهم، ولعله رضي الله عنه تذكر قول المصطفي - عليه السلام -: “كيف أنتم إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم. أي قوم أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله. قال: أو غير ذلك؟ تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون” [أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما]. وعندما شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - الغربة الثانية بالغربة الأولي فإن علينا أن نوازن بين المجتمعين (المجتمع المكي والمجتمع الراهن) لنستجلي مواضع الشبه في الجوانب التالية:
قلة العدد:
كان عدد الداخلين في الإسلام قليل (نزاع القبائل)، وهذا الذي ذكّر الله به المؤمنين بعد تكوين المجتمع المدني “وَاذكُرُوا إِذ أَنتُم قَلِيلٌ مُستَضعَفُونَ فِي الأَرضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ” (الأنفال: من الآية26)، وهذا هو حال أهل السنة السائرين على منهاجهم إيماناً وعقيدة وسلوكاً في هذا الزمان فهم اليوم قليل - نسأل الله أن يجعلنا منهم-.
وجود الشهوات:
فقد كانت أبواب المغريات مفتوحة على مصراعيها للحيلولة دون وصول هذا الدين في آذان أهل مكة ومن حولها، وسلكوا شتى وسائل الترغيب والترهيب لصد الراغبين في دخول الإسلام أو لإرغام الداخلين فيه للخروج منه، وقد نال قائد الغرباء في المجتمع المكي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك الكثير، وعرضوا عليه الملك والزوجة والمال، وعندما استطاع محمد أن يطرب قلوب القوم بالوحي الإلهي، سعي أولئك أن يطربوا أسماعهم بالوحي الشيطاني وأحضروا القينات والمعازف.
أما الشهوات في غربتنا فحدث ولا حرج، حتى أجلب إبليس وأعوانه من شياطين الإنس علينا بخيله ورجله، وامتطي صهوة الثورة التقنية والإتصالات ليفتح أبواب الشهوات في غرفة النوم عند غياب الرقيب عبر القنوات الفضائية ليلقي محاضراته وفي أكاديمياته وعلى الهواء مباشرة!
وجود الشبهات:
أثار كفار قريش شبهات كثيرة حول الإسلام والرسول - صلى الله عليه وسلم - ووصفوه بأنه ساحر، وكاهن ومجنون، وأنه يفرق بين المرء وأحبته، وأن الذي يأتيه شيطان ما يلبث أن يتركه، واستعانوا بعلماء سوء من يهود المدينة لإثراء شبهات حول الدعوة، حتى أنهم تحملوا كل المسؤوليات وأصدروا وثيقة تأمين عجيبة “اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم”، ويحدثنا الصحابي أبو ذر الغفاري أن أهل مكة حذروه من سماع كلام محمد حين قدم إليها قبل اعتناق الإسلام حتى إنه وضع القطن في أذنيه!
وتدور الأيام ويعود الإسلام غريباً وتصاغ الشبهات العظام ويتولى كبرها أهل الملل والأديان ومن افتتن بهم من أبناء المسلمين اللذين شكلوا طابوراً خامساً يفتتون في عضد الأمة ويصطادون في الماء العكر، ورمي من التزم بالسنة بالإرهاب، وأعيد صياغة “عبادة رب محمد سنة على أن يعبد محمد الأصنام سنة” في قالب التسامح والتعايش ودين إبراهيم وحوار الأديان وطمس الكراهية ضد الأديان، ومحو مفهوم الولاء والبراء والجهاد، والتهكم بسنن المصطفي - عليه السلام - وإخراج المرأة من نور العباءة السوداء إلى ظلمة حضارة الرجل الأبيض!
من يعصهم أكثر ممن يطيعهم:
وهذا واضح في المجتمع المكي حتى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - انتابه شيء من اليأس فكان الله دائماً يسليه في غربته “فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفسَكَ عَلَى آثَارِهِم إِن لَم يُؤمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً” (الكهف: 6)، “وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيكَ إِعرَاضُهُم فَإِنِ استَطَعتَ أَن تَبتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرضِ أَو سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأتِيَهُم بِآيَةٍ, وَلَو شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُم عَلَى الهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ” (الأنعام: 35).
أما في غربتنا فهو واضح أيضاً، فإن علماء السنة اللذين يعرفون الحق ويرحمون الخلق لا يسمع لنصائحهم ولا يستجاب لمبادراتهم، ويطرق جميع الأبواب للمشورة إلا بابهم، وهل نقموا منهم إلا أنهم سلكوا سبيل السلف في نصح الأمة؟ وهل هم إلا الدعاة لمنع خرق السفينة، ليس أدق من وصف غربتنا من هذا الحديث الذي رواه الطبراني بإسناد فيه نظر من حديث أبي أمامة مرفوعاً: “إن لكل شيء إقبالاً وإدباراً، وإن من إقبال هذا الدين ما كنتم عليه من العمى والجهالة وما بعثني الله به، وإن من إقبال هذا الدين أن تفقه القبيلة بأسرها حتى لا يوجد فيها إلا الفاسق والفاسقان فهما مقهوران ذليلان، إن تكلما قُمِعَا وقُهِرَا واضطُهدا، وإن من إدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة بأسرها حتى لا يُرى فيها إلا الفقيه والفقيهان فهما مقهوران ذليلان، إن تكلما فأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر قُمعا واضطُهدا، فهما مقهوران ذليلان لا يجدان على ذلك أعواناً ولا أنصاراً”.
وتأمل كلام أحمد بن عاصم الأنطاكي - وكان من كبار العارفين في زمان أبي سليمان الداراني - يقول: إني أدركت من الأزمنة زماناً عاد فيه الإسلام غريباً كما بدأ، وعاد وصفُ الحق فيه غريباً كما بدأ، إن ترغب فيه إلى عالم وجدته مفتوناً بحب الدنيا، يُحب التعظيم والرئاسة، وإن ترغب فيه إلى عابد وجدته جاهلاً في عبادته مخدوعاً صريعاً غدره إبليس، وقد صعد به إلى أعلى درجة من العبادة وهو جاهل بأدناها فكيف له بأعلاها؟ وسائر ذلك من الرعاع، همج عوج وذئاب مختلسة، وسباع ضارية وثعالب ضوار، هذا وصف عيون أهل زمانك من حملة العلم والقرآن ودعاة الحكمة. خرجه أبو نعيم في (الحلية)، وبعد أن أورد ابن رجب هذا الأثر عقب عليه قائلاً: “فهذا وصف أهل زمانه فكيف بما حدث بعده من العظائم والدواهي التي لم تخطر بباله ولم تدر في خياله؟ “ ونحن نعقب على ذلك ونقول: وكيف الحال إذا علم الأنطاكي والحنبلي أن اليهود والنصارى يملون على المسلمين دينهم ويرسمون الخطوط الحمراء التي يحظر على المسلمين تجاوزها حتى وهم في البلاد الإسلامية!! وكيف الحال إذا علما أن شيخاً مقعداً أفنى حياته نصرة للأقصى من براثن اليهود يغتال ثم لا يستنصر!!
و تأمل أيها المغترب قول الحسن: لو أن رجلاً من الصدر الأول بُعِثَ اليوم ما عرف من الإسلام شيئاً إلا هذه الصلاة، ثم قال: أما والله لئن عاش إلى المنكرات فرأى صاحب بدعة يدعو إلى بدعته أو صاحب دنيا يدعو إلى دنياه فعصمه الله - عز وجل - وقلبه يحن إلى السلف الصالح فيتبع آثارهم ويستن بسنتهم ويتبع سبيلهم كان له أجر عظيم. [أخرجه الإصبهاني]
ولعلنا في زمن الغربة نسلي أنفسنا بصفات أهل الغربة التي سطرها الإمام علي - رضي الله عنه - ولعله قال هذه الكلمات في أواخر أيامه حين هجمت عليه الهموم من كل جانب، فقوم فرطوا فيه حتى أخرجوه من دائرة الإسلام وقوم أفرطوا في تعظيمه حتى عدٌّوه إلهاً من دون الله يقول - رضي الله عنه-: “والله هم الأقلون عدداً والأعظمون عند الله قدراً، يحفظ الله بهم حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم، هَجَم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما أستوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها متعلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه، آه آه شوقاً إلى رؤيتهم” [رواه أبو نعيم عن كميل بن زياد]