قواعد اللغة الكونية عند تشومسكي
كان يُعتقد وحتى في بداية القرن العشرين أن مَلَكة اكتساب اللغة لدى الإنسان ما هي إلا -كأي سلوك من السلوكيات - يمكن اكتسابها من خلال التعليم والتدريب. وبناءً عليه فإن الطفل يتعلَّم لغة الأم من خلال تقليد وتلقين الأبوين له.
جاء نعوم تشومسكي لينتقد هذه النظرية السائدة ويؤكد أن الطفل قادر على أن ينشئ عدد لا متناه من الجمل من خلال تركيب عدد محدود من المفردات وأن هذه الملكة متأصلة فيه ولم يتم تعلمها بمجرد التقليد والعوامل الخارجية. ويمكن القول بأن هذه القواعد التوليدية هي مجموعة من النظم الحاسوبية المتأصلة في أذهاننا نحن البشر فقط وهي محددة العدد التي من شأنها توليد عدد لا متناهي من العبارات اللغوية وكل عبارة منها ما هي إلا صياغة دلالية معينة تتفاعل مع أنظمة الحواس مثل الصوت والإشارة و اللمس وأجهزة الحركة في الإنسان.
إن أية لغة تخضع لمجموعة من القواعد والمبادئ عند بناء الجملة المفيدة وترتيب الكلمات في هذه الجملة. وهذه القواعد متأصلة لدينا ونطبق هذه القواعد منذ الطفولة لاشعورياً عندما نتخاطب فيما بيننا بسلاسة. وقد أطلق تشومسكي عبارة “القواعد التوليدية” (Generative Grammar) على هذه القواعد اللغوية. لاحظ أن هذه القواعد هي قواعد كونية بغض النظر عن لغة ما ولا علاقة لها بقواعد النحو الخاصة بهذه اللغة أو تلك.
وكمثال على ما سبق لا نختلف فيما بيننا أن جملة “ذهب زيد إلى المدرسة” صحيحة حسب القواعد الكونية بينما “زيد إلى ذهب المدرسة” خاطئة. وخذ مثال آخر: لا يمكن إرجاع “زيد” والضمير المفرد الغائب لنفس الشخص في عبارة “زيد يحبه” بينما يمكن ذلك في عبارة “يعلم زيد أن أباه يحبه”. ومثل هذه القواعد الكونية متأصلة غريزياً لدي الأطفال الصغار حتى لو كانوا دون السنة الخامسة. ومع تباين القواعد النحوية للغة معينة فإن هذه القواعد الكونية لا تختلف من لغة لأخرى. وهي قواعد موجودة في جيناتنا نحن البشر ومبرمجة مسبقاً في دماغنا ولا نشارك ذلك أي كائن حيوي آخر وينمو معنا منذ الطفولة بدون مجهود وتلقين شأنه شأن نمو أعضاء أخرى مثل نمو الساقين والذراعين.
يمكن تصور الجملة المفيدة في أية لغة على شكل طبقات من الكلمات المترابطة. وعليها فإننا مجبولين في فك رموز اللغة تلقائيا بتصورنا الطبيعي لهذه العلاقات الهرمية والتي تختلف تماما عن العلاقة الخطية وتقدير بُعد وترتيب الكلمات في جملة ما.
لنأخذ مثال على ما سبق. لنعتبر الجملة الأولى “ الطيور التي تطير غريزيا تسبح” والجملة الثانية: “ غريزياً الطيور التي تطير تسبح”. الجملة الأولي مشكلة لأن كلمة “غريزياً” قد تصف حال الفعل تطير أو تسبح ولا يمكن الترجيح بينهما. بينما الجملة الثانية واضحة بأن كلمة غريزيا تصف حال السباحة وليس الطيران. والمثير في الجملة الثانية أنه بالرغم من أن كلمة غريزياً أقرب -من حيث البعد الخطي- من الطيران، إلا أنها أقرب للسباحة في البنية الهرمية المتأصلة في أذهاننا نحن البشر. وهكذا وبشكل مدهش يستطيع البشر حل شفرة الكلمات في الجمل المعقدة من خلال تكوين مثل هذه الروابط والمقدرة على إعادة توليد أهرامات بنائية بشكل لامتناه والتي قد تتوسع لعدد كبير من الطبقات كما في الجملة “بسلاسة يستطيع البشر معرفة أن غريزيا الطيور التي تطير تسبح”.
لاحظ أن البشر يوظفون بشكل تلقائي الحواس كمدخل أو مخرج لتكوين وفهم هذا الهرم البنائي المذكور آنفاً. وذلك لأن الهرم البنائي لا يميز بين ترتيب الكلمات ولا اتجاه قراءة الجملة وإنما يغذي مثل هذه المعلومات من خلال الأجهزة والحواس لدينا.
من الخطأ اعتبار اللغة عند الإنسان أداة تواصل مثل الأصوات عند الطيور المغردة مثلاً. في الحقيقة نحن نتواصل فيما بيننا بوسائل شتى منها اللغة ولكن نستخدم اللغة في التفكير الذاتي أكثر منها في التواصل.
يمكن اختصار العملية الحاسوبية في الدماغ لتوليد اللغة بأنها ملكة لدى الإنسان يستطيع من خلاله أخذ مفردات من خزانة ما و إعمال دالة توليدية بشكل دوري لإنتاج عبارات لغوية لا نهاية لها. وهذه الألة التوليدية لابد وأن تتعامل مع جهازين آخرين على الأقل: الأولي جهاز التفكير والتخطيط والثانية جهاز الحركة والحواس للتفاعل مع العالم الخارجي. وبهذا الترابط والتنسيق بين هذه الأجهزة الثلاث نتمكن نحن البشر وبكل سلاسة ولاشعوريا التعامل باللغة.
اللغة الكونية ونظرية التطور وبما أن هذه الملكة اللغوية خاصية فريدة للإنسان فإن هذا ينقض نظرية داروين في التطور التي تؤكد أن جميع صفاتنا وخصائصنا إنما تطور عبر الأجيال من كائنات عضوية بدائية.
أثبتت الدراسات الحديثة أن التطور العضوي والبقاء للأمثل في الحقيقة يعمل بشكل عشوائي تماما وبالتالي كان الأجدر تسمية النظرية بالبقاء للذي يحالفه الحظ أكثر. ومن أجل أن تعمل النظرية بالطريقة التي صاغها داروين فإنه يلزم عدد كبير جدا من أفراد الأصناف وملايين السنين من الأجيال المتعاقبة مما يجعل إمكانية خضوع صفات معقدة لهذه النظرية مثل اللغة أمراً مستحيلا.
كثيراً ما يسوق منظروا الداروينية بأن الأدوات المبتكرة والكشوفات التكنولوجية كانت السبب في انقراض نوع ونشوء نوع آخر من الهومو (الإنسان القديم). ولكن الدراسات الحديثة والبحث عن تأريخ هذا الاختراعات يكذب مثل هذه الادعاءات وأن ظهور أصناف الهومو كان بمعزل عن هذه المخترعات. وبالتالي نعتقد أن المقدرة على استخدام اللغة كانت متأصلة في أصناف البشر كلهم بسبب غريزي ذاتي لا علاقة للتكنولوجيا والابتكارات في تطوير هذه الخاصية.
إن أحدث الدراسات المجرية بالمسح الضوئي للدماغ وكذلك تحليل شرائط ال DNA تبين التشابه الكبير بين الإنسان والطيور المغردة في مناطق التحكم بالصوت في الدماغ وفِي نفس الوقت التباين الشديد مع الشيمبانزي والطيور الغير مغردة في هذه الصفات (١). تؤكد هذه الدراسة أن ملايين السنين التي تفصلنا عن الطيور المغردة في سلم التطور لم يَحُل بيننا وبين الحفاظ على هذا التشابه الكبير في الجينات والتركيب الدماغي بينما قوة الصِّلة مع الشيمبانزي في التطور لم يكن شافعاً لوجود هذه الصفات وهذا أيضاً يضيف نقاط لصالح بطلان نظرية التطور.
يفصل الإنسان الحديث الهومو سابينز عن النوع الأقدم المعروف بالنيندرتل قرابة ٢٠٠ ألف سنة. وهذه فترة وجيزة جدا في عمر نظرية التطور لإحداث نقلة كبيرة في الصفات مما يؤكد أن اللغة كانت صفة ذاتية متأصلة في الإنسان القديم. أما عدد الجينات التي تفرقنا عن النياندرتل فقد تبين أنه فقط ٨٧ جين.
وخلاصة القول فإن علم الجينات ودراسة الدماغ أحدثتا ضجة في علم اللسانيات مثل ما أحدث اكتشافات ميندل الجينية من ضجة لنظرية التطور.
فلسفة اللغات ظلت الفكرة السائدة وحتى القرن السابع عشر أن العالم عبارة عن آلة ميكانيكية. ولكن ظواهر غامضة مثل ملكة اللغة و غيرها جعل فلاسفة مثل ديكارت يفرقون بين ظواهر ميكانيكية (الجسم) وأخرى غامضة (العقل). جاء نيوتن لينسف الجسم ويعيد مفهوم جميع العالم على أنها غامضة.
المصادر Pfenning 2014