الإنسان والذكاء الاصطناعي
الإسلام والإنسان
الإنسان خلق عجيب من خلق الله. خلقه الله بيده وأسجد له الملائكة وحمله في البر والبحر وفضله على كثير من خلقه وسخر له ما في السماوات و الأرض ووهبه العقل واللغة وجعله خليفة في الأرض يستعمرها ويكتشف أسرارها ويوظفها في حاجاته ورفاهياته.
وهذا الكائن العجيب لا يعرف كنهه وأسراره إلا خالقه عز وجل. والإنسان مركب من طينة الأرض ونفخة الرب. (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين). وما لا نعرفه عن أنفسنا أو عما حولنا أكثر بكثير مما نعرفه حتى بعد الثورة التقنية والمعلوماتية. ولا تزال الآية الكريمة سارية المفعول صحيحة المعنى إلى قيام الساعة (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) وقوله تعالى (ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً).
والقلب البشري لا يرتاح إلا بالتعلق بركن شديد يلجأ إليه لسد ضعفه وفقره. وهذا الركن الشديد هو الله عز وجل.
(ألا بذكر الله تطمئن القلوب)
وعندما يضل الإنسان طريق الرشد وينسى الإله الحق فإنه يحاول سد حاجته الروحية بالهرب إلى آلهة أخرى يعتقد أنها تسد حاجته ولكن سرعان ما يكتشف أنه يسعى وراء سراب وأنه لا يزداد مع الأيام إلا حاجة وفقراً
(واللذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه)
وقد جاء الإسلام بالتنويه على التنوع البشري بين الأفراد في تصرفاتهم وتفكيرهم وتركيبهم النفسي.
(ومن آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم) (يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا)
والتعميم داء خطير ينكر هذا التنوع الرباني الذي أودعه الله في البشر ويختزل الطبع الإنساني المركب في قوالب عامة تضيع فيه الخصوصيات بين أفراد المجتمع. فنجد الله مثلاً بعد وصف اليهود بقوله (كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق) يستطرد في الآية التي تليها بقوله (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون ءايات الله أناء الليل وهم يسجدون)
وتأمل كيف كان الرسول الحكيم عليه الصلاة والسلام حين يسأل مثلاً عن أفضل الأعمال لم يكن يقع في داء التعميم وإنما كان يراعي اختلاف طبائع الأفراد ويعطي أجوبة مختلفة من بر الوالدين أو الصلاة لوقتها أو الجهاد وغير ذلك.
وكثيراً ما نسمع في برامج الإفتاء على الهواء في الراديو والتلفاز عن أسئلة متعلقة بالطلاق ويحيل المفتي السائل لأن يذهب إلى القاضي شخصياً لتقصي الحقائق وما ذلك إلا لخطورة التعميم وإصدار أحكام حسب قوالب عامة في مثل هذه الأمور الخطيرة المتعلقة بمؤسسة الأسرة والأولاد اللذين هم لبنات المجتمع الإسلامي.
وقل مثل ذلك في ذهاب المريض للطبيب الخبير بدلاً من اعتماده على أجوبة الإنترنت وهذا يدلك على مراعاة الخصوصيات والاختلاف بين الأفراد وأهمية بذل الوقت والجهد لمعرفة خصوصيات كل شخص بدلاً من اختزاله وغيره من آلاف البشر في قوالب عامة واستصدار حكم واحد على الجميع.
وهكذا رأينا من خلال هذه اللمحات السريعة هذا الإنسان العجيب في تركيبته الفريدة. هذا الإنسان الذي عمر الأرض منذ آلاف السنين. هذا الطفل الصغير الذي يحمل في قلبه وعقله أفكاراً معقدة كامنة لا تظهر إلا بعد عقود من الزمن. وهذه المجتمعات الإنسانية عبر التاريخ تبني حضارات وتبتكر صناعات وآلات، وتعبر عن مشاعرها من خلال أعمال أدبية، وتخوض حروباً وتفسد في الأرض مثل ما تصلح. وهذه التراكمات الهائلة من النشاط البشري هي خزينة مليئة بالحكم والدروس مفادها أن الإنسان مخلوق معقد ومركب ولا يمكن تبسيطه واختزاله، ولك أن تتخيل المسافة والمفارقة بين تربة الأرض ونفخة الرب والناس هكذا متفاوتون في مواقعهم بين هاذين القطبين وهاكم بعض الآيات القرآنية من غير تعليق.
(لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين) (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً)
الإنسان والإمبريالية الغربية
أما تحت وطأة الحضارة الغربية فالنظرة تجاه الإنسان مختلف تماماً. إنه إنسان طبيعي مصنوع من المادة لا فرق بينه وبين أي حيوان آخر بل لا فرق بينه وبين الجماد. وبهذا فهو غير مكرم وليس فيه شيء من نفخة الرب. وسادة الإمبريالية همهم الوحيد هو السيطرة على الثروات والموارد والمواشي والمعادن والبترول والإنسان واستخدام كل ذلك في رفاهية هؤلاء السادة.
وهذه النزعة الإمبريالية -إذا تمعنا النظر في القرآن والتاريخ – نجدها قديمة ومكررة في كل الشعوب. ويتحدث عنها القرآن في سياق المحاورة والجدال بين فريقين: السادة والمستضعفون. وقد يطلق على هذين الفريقين أسماء أخرى مثل: “الملأ اللذين استكبروا” مقابل “الملأ اللذين استضعفوا”، أو مثلا “اللذين اتُّبعوا” مقابل “اللذين اتَّبعوا” وغير ذلك. وفي جميع الأحوال نجد هؤلاء السادة يتصفون بمجموعة من الصفات، أبرزها الاستكبار واحتقار الضعفاء والترف الزائد والجري وراء ملذات الدنيا. وهذه بعينها هي آفة الحضارة الغربية الإمبريالية في يومنا هذا حيث نجد الأثرياء اللذين يشكلون ١٪ من السكان يستحوذون علي ثروات ما يعادل ٩٩٪ من السكان ولا تزال الفجوة تزداد مع الأيام اتساعاً وهذا ما حذرنا منه ربنا (حتى لا تكون دولة بين الأغنياء منكم). وإذا كانت الطريقة التقليدية في استحواذ السادة المتكبرين على ثروات المستضعفين بالقوة قد استنفذت مقدرتها الإمبريالية إبان انتهاء عصر الاستعمار فإن التقدم التقني جاءت بمثابة الهدية الشيطانية وهكذا وجدت الشهية الإمبريالية في التكنلوجيا حفلة وليمة لاستنزاف خيرات البلاد والعباد بطريقة جديدة أكثر دهاءً وفتكاً بالإنسان.
ويمكننا من خلال التقديم السابق معرفة السر في احتفاء الأنظمة الإمبريالية بالتقنيات الحديثة وتشجيعهم في كثير من الأحيان البحث العلمي والتجارب المعملية، ولكن نياتهم خبيثة وامبريالية وهدفهم هو بسط التسلط على باقي الشعوب. وقد اطلعت أن هتلر قد طلب من العلماء البحث في إيجاد طريقة تمكن البعوض بحمل داء الملاريا والقضاء على الفئات البشرية الغير مرغوبة فيها. ولك أن تتخيل المصيبة التي كانت البشرية ستصاب بها فيما لو وجد هتلر (أو أمثاله) التقنيات الحديثة في مجال الدرون والروبوتات والذكاء الاصطناعي.
الذكاء الاصطناعي
هدف الذكاء الصناعي هو اختراع آلة تتمتع بنفس خصائص الإنسان العقلية من القدرة على الخطاب والتحدث مع الآخرين بسلاسة بحيث يصعب على المراقب أن يفرق بينها وبين الإنسان. وهذا هو تحدي ألن تورينغ (Alan Turing) والذي يعتبر مؤسس الذكاء الصناعي. وقد مضى سبعون عاماً على هذا التحدي ولم يستطع أحد حتى الآن بتصميم برنامج يحكي الإنسان تماماً. وفحوى هذا التحدي هو أن نضع في غرفة معزولة إنسان وآلة تتمتع بالذكاء الاصطناعي ثم يقوم إنسان في غرفة مجاورة بالتحدث عبر رسائل نصية معهما بحيث لا يعرف الرد من أين أتى من الإنسان أم الآلة. ومهمة هذا المحاور أن يستمر في الحوار النصي وتكون الآلة قد نجحت في اختبار تورينغ إذا استطاعت الاستمرار في المحاورة بسلاسة لدرجة أن المحاور لم يعد يميز بين إجابة الإنسان والآلة. أما إذا استطاع المحاور أن يفرق بين إجابة الإنسان وإجابة الآلة ولو بعد وقت طويل فإن الذكاء الاصطناعي لم يرتق لمستوي الإنسان.
في الماضي ومع بداية نشأة الذكاء الاصطناعي تفاءل العلماء بإمكانية برمجة دماغ الإنسان ومحاكاة عمله من خلال حصر الوظائف الحيوية في عدد محدود من الدوال الرياضية وكأن الإنسان آلة مكشوفة تم اكتشاف جميع خصائصه ولم يعد هناك أية أسرار. وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. ومع ازدياد مقدرة الحاسوب للقيام بالعمليات الحسابية والمقدرة التخزينية ومع وفرة البيانات والمعلومات ازدادت شهية علماء الذكاء الاصطناعي لأن عدد المدخلات للدوال الرياضية ازدادت بشكل كبير مما يعطي انطباع بزيادة كفاءة هذه الدوال ولكن في واقع الأمر فإنه لم يكن هناك أية تحسن في فك أسرار طريقة التفكير لدى الإنسان أو محاكاة اللغة البشرية وإنما فقط ازدادت الأمثلة الصحيحة للمشكلة المطروحة وسرعة استرجاع وانتقاء الأجوبة. وكذلك هناك عامل السيكولوجيا البشرية التي عبر عنها الرسول – صلى الله عليه وسلم – في معرض الحديث عن السر في تصديق الناس للكهان وهو أنهم يكذبون مائة كذبة مع كل معلومة صحيحة ويطير الناس بالمعلومة الصحيحة ولا يكترثون كثيراً بمئات الأكاذيب. وهكذا نجد اليوم وبنفس النسبة فإن ألف معلومة صحيحة مقابل مليون معلومة خاطئة لا شك وأنها ستترك أثراً كبير في الناس.
إن وجود الهاتف النقال مع كل شخص وتطور الذكاء الصناعي جعل من اليسير جعل البشر سلعة يمكن التحكم فيه وإعمال سحر الذكاء الصناعي. فهذه الدوال الرياضية ومن خلال معرفة اختيارات صاحب الجوال في مطعمه وملبسه وأين يذهب وماذا يقرأ وماهي المواقع التي يزورها كل ذلك سيؤخذ في الحسبان ويصنع الدوال الرياضية منها مقترحات مصممة خصيصاً لهذا الشخص. ومن ثم ستتوالى على هذا الشخص مقترحات التسوق والمطاعم والأخبار وستلاحقه هذه الدوال ليل نهار وتغرقه بكم هائل من المعلومات مما لا ينشط بعدها ولا يجد والوقت وراحة البال لعبادة الله واعمار الأرض.
ولست هنا في هذا المقال بصدد رسم صورة مظلمة ومتشائمة عن التكنلوجيا، بالعكس فأنا أؤمن بالتقدم التكنلوجي ولكن أؤكد على أن يدير الرجل الأمين هذه العملية وأن لا تكون هذه الدوال الرياضية وبرمجيات الذكاء الصناعي في يد الدكتاتور والطاغية والشركات التي هدفها استعباد الناس والسيطرة عليهم واستنزاف ثرواتهم.
وختاماً أترك القارئ الكريم مع هذه الآيات من سورة البقرة
وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)